ذكريات الارض والحرب والحب بقلم :ناجى عبدالسلام السنباطى
*********************************
دمعة في العيون ، تقعد طول العمر ، نعالجها ، وألم القلب ، يظل طوال العمر رابضا ، ما دام الجرح لم يلتئم ، وما دامت المواقف التي سببت الألم ، راسخة في النفوس ، فجروح البدن ، يمكن التغلب عليها ، ولكن جروح النفوس ، تظل ما ظلت النفوس ، فإن صحت النفوس ، صحت الأعضاء جميعها ، وألمنا ألم عميق وقديم ، ما نبرة الحزن ، التي ظهرت في جيل المعاناة ، جيل تاريخ طويل ، في الأربعينيات والخمسينيات ، ................، والسبعينيات ، الا شيئ من هذا 0
آه من نفسي ، حينما قرأت التاريخ ، وغصت في أعماقه ، أستطلع رحلة الحياة ، حياة ممتدة ، جغرافيا ، في منطقة أطلق عليها " الشرق الأوسط " 0
آه من نفسي ، تعبت يا نفسي وحملت آلاف المآسي ، قذفت بك الحياة في خضمها فتلاطمتني أمواجها ، لا تدري منها شيئا ، وقليلا 00 قليلا ، غصت فيها 0
أنتكلم عن تلك الأيام ومعاناتها ، أنتكلم عن العواطف وجيشانها ، أم عن حب تاهت فيه القلوب ، أم عن كتاب الخيال أم كتاب المناسبات أم شعراء حالمون ، صاغوا الحنان نجم في السماء ، في قلوب من ذهب ، أو نتحدث عن علماء وفلاسفة ، نظرا وحذروا وفزروا وجربوا ، نتحدث عن ماذا ؟!
أغاني الجميع ، كانت قاتمة ، قتامة واقع ممتد ، منذ أمد طويل ، لم نر فرحة تشد الحزن وتذيبه في عناصرها ، ولم نر الضوء الخفاق ، يطل مصباحا للطريق 0
الجد والأب والأولاد ، أجيال وراء أجيال ولا جديد ، أسمع من الحكايات الكثير ، ما بين خيال جامح ، أو خوف متأصل في النفوس ، تناقلوا الحكايات عبر الحكايات ، في ليالي القمر الساطعة ، في ريف ممتد طويل ، من وراء الأشجار العالية الخضراء ، الباسقة ، آمام بيوت متلاصقة ، منها الحديث ومنها القديم ، ومن وراء طينة الأرض الخصبة ، ومن طمي النيل الذي يزيد خصوبتها ، ومن عرق الفلاحين والعمال والموظفين ، من كفاح ممتد عبر التاريخ ومن أبطال حفروا في ذاكرتنا ، كما نحفر في الحجر – خطأ من يقول ، أن الحفر في الحجر صعب المنال نعم معه ، أن الحفر صعب ، ولكني لست معه ، حينما يتم الحفر ، فالحفر لا يتلاشي ولا يذوب ، يظل باقيا ، بقاء الحجر ، علامة وتاريخ ، ألم يحفر أجدادنا القناة وظلت قائمة شامخة ، ألم يحفر آباؤنا الجرانيت ، وبنوا السد عاليا قائما حاميا منيرا ، ومن قبل ألم تظل نقوش الحجر ، ومن تاريخ قديم ، قالوا عنه آلاف السنين ، شاهدا ومعبرا عن حضارة مصرية ، قدم العالم ، نفخر بها ، ويفخر بها الناس وأظل أسمع حكايات وحكايات عن الزمان وعبره ، وإستكشافا لمستقبله ، ولكن كم من الحكايات شدتنا ، وكم من العبرات أخذتنا ، وكم من الآلام عصرتنا ، لكن حكايات قريتنا لا تنتهي ، نظل نرددها ، جيلا وراء جيل 0
قرأنا تاريخ مصر ودرسناه ، قرأنا التاريخ الإسلامي ودرسناه ، ورأينا فيه مواعظ وحكم ، رأينا فيه مواقف رجال وعظمة أبطال ، أليس عمر بن الخطاب ، هو الذي أسلم وضوحا جهارا بلا وجل ، أليس أبو بكر هو الذي أعلن الحرب علي الردة ، وهو الرقيق الوديع ، أليس خالد بن الواليد ، بطل إسلامي ، مات فوق فراشه ، كما يموت الناس جميعا ، وهو الذي خاض آلاف المعارك ، وأصيب في كل موضع من جسده ، وها هو قد مات فوق فراشه ، أليس قوله " لا نامت أعين الجبناء " دليلا ممتدا عبر الزمان 00
لكن ماذا يا دنيا بما فيك من مرارة كيف نخوض غمارك ، ونجلس في ردهاتك ، في وحل الحروب وآلتها الجهنمية ، التي تدور ولا تتوقف ، تطحن فيها اليابس والناضج ، الصالح والطالح ، قضية معقدة هي حياتنا عشنا في هذا الوادي الممتد ، حتي شرق الشام وغرب أفريقيا وجنوب أوروبا وجنوب منابع النيل ، حضارة تقوم وأخري تمحي ، أجيال تموت وأخري تحيا ، وما زالت التربة ، متعطشة للدماء ، تعطشها للماء ، ماء نيلنا العظيم ، أليس هذا قدر عليها ، أن تتحمل أمانة الإنسان ، أهي تطهر نفسها بالدم ، من أجل استعدادها للقيامة الكبرى ، أتكون تلك الأرض ، هي أرض الميزان ، أتكون أرض الحشر ، أنقرب الصورة أكثر من تحمل تلك الأرض ، لرسالات السماء جميعا ، أليس مثلث الأديان ، يمتد جنوبا في أرض الحجاز ، وشرقا في أرض الشام ، وغربا في أرض مصر ، حيث ظهرت اليهودية والمسيحية والإسلام 0
مادامت هذه دلالات للإنسان ، فلم الصراع يا أصحابي في كل هذه البقعة ؟ لم الصراع الممتد عبر التاريخ ، وقد ضخ دماءا كثيرة ، تخضب وجوه كل الأرض وما كان يجب أن يكون هناك صراعا ، أليست الأديان جميعا من عند الله ، أليست متصلة ، لحمل الأمانة ، وتوجيه حامليها ، كما ذهبوا بعيد ا في صحراء التيه . إذن لماذا كل هذا ؟ ويا عجب الأقدار ، أن تكون أرض سيناء هي المعبر لكل هذه الديانات ، هي أيضا الأرض المقدسة المطهرة ، التي جاء ذكرها ، في القرآن الكريم ، وفي كافة الرسالات ، وهي أيضا بحيرة الدم التي لا تنتهي ، فهي بحور أرض الوجود والتيه، الحكمة والانفعال ، الأصالة والزيف ، أليس شيئا غريبا ؟!! أم أنه غريب بمنظارنا ، أن يكون كل هذا ، بجانب حضارة مصر العميقة ، في جذور التاريخ ، جذور التاريخ الذي قرأناه ودرسناه ، وتأكد لنا أنه لابد من دماء تسكب!!.
كحلت عيناي ، بكحل سيناء ، وأبصرت علي مساحتها الواسعة ، دماء ذكية ،- تشفها كما ( النشافة )-، ودماء خبيثة أيضا !! ، أهي حقا بعد الموت ، دماء إنسان ، إنتهي ، وما بقي غير ما كان.
أسرار لا نعلمها فوق طاقتنا هي ، ولكن في واقعنا الذي نحياه ، هناك دماء عن خير بذلت ، وخبيثة عن شر بذلت ، هي إذن معركة صراع بين الخير والشر ، أنه بحق صراع الإنسان ، أم أنه توهان في بحور الحياة العميقة ، أسئلة كثيرة ، تزاحمت ولم أجد إجابة ، ولكن آلاف الصور ، ظهرت أمام شاشتي الداخلية ، شهيدنا ، أنت يا رافع الراية وشهيد آخر وثالث 000
شهداؤنا 00 رجال عظماء 00 تري من حرك الإلهام داخل نفوسهم لتبذل أرواحهم الغالية شهادة علي حبهم لهذه الأرض 00 أرض الأجداد 00 أرض الأصالة 000 أهو شئ خارج عن طاقتهم 00 لا شك ذلك 00 أوفيه شئ من الحقيقة 00 أيشهدون الناس والعالم يوم القيامة ، ويشهدون أنفسهم أمام الخالق 00 علي ما كان وما قاموا به وأنظر وأتعجب 00 ولكن نفسي ، تري غير ما أري 00 تري أنهم كل هذا 000 وأنهم خلقوا لكي يستشهدوا 00 فليس كل إنسان مهئ لحمل هذا الشرف العظيم، إنه إعداد خاص ، وتكوين خاص وإستعداد خاص ، لا يأتي في لحظة ، وإنما جسد وعقل وروح 00 تجمعوا تهيئوا ، ليحملوا الرسالة 00 دفاعا عن الحق ، كانوا جميعا علي مر الأيام والليالي ، حاملين الإعجاب ، الذي يتراكم ، بمن سبقوهم ، ويزداد تماسكه ، حتى لحظة التفجير 00 التي ليس لها ميعاد 00 إن هذا شئ داخلي لا نستطيع أن نحلله 00 أو نخضعه للمجهر ، وقت التفجير فيه ينتهي معني الحياة بما نعرفه عنها ، لتتحول عبر قنطرة التواصل ، أو الوصول إلي الحياة الدائمة ، لحظة تنقطع فيها كل الاتصالات المادية ، لتبدأ إتصالات لا مرئية يعرفها فقط ، من عبر القنطرة ، قنطرة من الحياة إلي الحياة ، يعرفها الشهيد ويشهد عليها يوم الشهادة . والشهيد ليس مثقفا أو أميا ، ليس غنيا أو فقيرا ، ليس وليس وليس 00 وإنما هو شهيد وكفي 000 يستوي الجميع في معيار الشهادة وفي درجتها وفي مقياسها وقد تنظر في الحياة راجعا إلي الخلف ، تبحث عن هذه المعايير علي من إستشهدوا ولكنك أبدا لن تصل إلي ما تصبو اليه 000 فالمعادن الثمينة ، تخفيها رمال عظيمة من مشاكل الحياة ، ويعلوها أو يكسوها صدأ الحديد من خبث الحياة 000 إن لحظة التفجير تكشف كل هذا00 وتضعك أمام الحقيقة الوهاجة ، مضيئة.
أأسبح في بحر الخيال أم أسبح في بحر الحقيقة ؟ 00 ليس هذا خيال أو حقيقة 00 فكم من خيال صار حقيقة 00 وكم من حقيقة مرة كالعلقم 0000
قسم الله الأرزاق 00 وقسم الأرض 000 وقسم الحياة 000 بالعدل وبالقسط 000 لكن الناس
ما زالت في خنادقها الضيقة 00 خندق العقل الضيق الذي يصب فيه ذاتيتهم ، سراب ووهم000 وعفن 000 وجهالة 00 خلافات وصراعات 00 من أجل ماذا ؟ لا أدري ولا يدرون 00 ومن هناك من ربوة العقل ، حينما أهبط الدرب ، تاركا الخيال ، ذاهبا إلي الواقع هناك علي ساحل النيل 000 قربة صغيرة من قري الدلتا ، فيها وصفت المساء و حكايات الرجال 00 يقومون مع الفجر عمل وشقاء 000 وبحث عن لقمة العيش 000 وآه من لقمة العيش مغموسة في كثير من الأشياء 00 ولا بد من تنظيفها بالعرق وبالدم 000 حتى تصبح صالحة لآدمي 000 ويعودون مع آخر ضوء حيث الراحة والاستجمام 00 وحكايات القمر الليلية 000 لكن كتب علي قريتي أن تكون جزءا من الحقيقة 000 وكتب عليها أن تشارك بنصيب وافر من دماء أبناءها في معركة الحياة بشقيها المدني والعسكري 000 إنها بحق مصنع الأبطال الذي لا ينتهي 000 ولا أذهب بعيدا إذا قلت أنها صورة لكل قري مصر الأربعة آلاف أو تزيد نفس الصورة ونفس الملامح ونفس الكفاح 0
أحمل منظاري وأوسع مداه بعيدا عن قريتي 000 وأقربه أكثر وأكثر علي أرض ممتدة عبر الزمان 000 تصل الشام بمصر 000 أرض ظلت طوال السنين والأيام 000 حركة مد وجزر 000 تلاحم وإنفصال ، في عهود مختلفة وبعيدة وقريبة ، وذهب البشر جميعا ، وظلت الأرض ..إنصهروا جميعا فى بوتقتها ، وبقيت الأرض ، ولكن الناس ما زالوا كما هم رغم إنصهارهم ، بل زادوا فيما أرادوا من شجار وقتال 000 ننتهي من عدو ليظهر آخر وأخر00وأخر 000 لعبة الفراش والضوء 00 ولكن هل حقا هم فراش؟! الفراش 000 طير جميل رقيق 000لا يحمل ميكروبا ولا سلاحا 000 ولكنه حب الضوء إذن هم الذباب !! يأتي نحو العسل 000 فلا يستطيع فكاكا 00 ولكنه يحمل الأمراض 000 يحمل السلاح!!000 كل منهم مقتنع ، أن محاولته الاستيلاء علي الأرض 00 حق طبيعي له 00 لم ترد هذه الأرض في يوم من الأيام ، آتيا إليها بحب ، يعيش فيها بحب ، لكن بعض الناس ، لا يفهم أن هذه الأذرع الممتدة بالحب ، هي نفس الأيدي ، التي تصبح كالأخطبوط تعصره عصرا ، أذا ما لوث تربتها ، بعفنه وطمعه 0
كنا علي مر الزمان ، نعيش جميعا ، في حضنها ، من كافة الأديان ، سلام قائم وحقيقي ، لكن
شياطين الانسان ، ما تلبث أن توسوس له ، هذه أرض طيبة ، عاش فيها رجال منا ، إذن هي لنا
عبارة بسيطة لكنها ما تلبث ، أن تتحول إلي شعار ، يغذيها ما نراه ، من نهب وطمع وصراع ، من أجل الحياة وما نراه ، من شرور الإنسان ،أوغلت في صدره وفي عقله وفي سلطانه ، وفي جبروت قوته ، وفي بحثه عن مزيد من موارد الحياة ، ونسي أن موارد الحياة تستطيع أن تكفل الناس جميعا ، ولكن فقدان العقل ، رغم وجوده ، حولها إلي تقسيمات وتفريعات ، شرق وغرب
، هذا يريد هذا إلي قوته ، وذاك يريد ذلك إلي قوته ، وصارت أرض الله التي رعت الناس جميعا ، لقمة سائغة ، أمام كل متجبر ، يريدها لنفسه .
أحلام البطولة والزعامة تحركهم بها نكسب العالم أجمع ، بها نضمن الحياة ، أليست هي صرة العالم ، ومخزن غذائه ، وعصب اقتصاده ، وروحانية أديانه، وبهذا طمع الطامعون ، وأوغل المحتلون ، وتعددت أسبابهم بمقدار أحلامهم وتحمل إنسان أرضنا كل هذا وهو مثابر مكافح ، وكان ما كان ، كلما خرج عدو ، جاء عدو ، حتي تبلورت أحلام زائفة ، عن دين الهي حق 000 أنه دين اليهودية 000 الذي حمله موسي عليه السلام 000 موسي الذي خرج من أرض مصر ... زيف خلفاؤه 000 كل شئ عن رسالته وإستعاضوا عنها بروتوكولات حكماء صهيون 000 من النيل إلي الفرات 000 أرضنا أرض الميعاد !! أي مكريمكرون 000 وكما حاربوه وجادلوه وعذبوه في حياته ، وكما حاربوا عيسى عليه السلام وكما حاربوا رسول الإسلام محمد 000 كما فعلوا ذلك أرادوا أن يفعلوا ذلك بعد مماتهم جميعا 000 أقصد بعدهم عن دنيانا 000 في عالم آخر غير ما نعرفه 00 هذه أرضنا قالوا ذلك كثيرا 000 وساعدهم الكثيرون 000 وخططوا وحددوا دولة كبيرة تمتد من الفرات إلي النيل 000 نفس الامتداد ونفس المساحة ....
مساحة الطهر 000 مساحة الحياة 000 وأيضا مساحة الدم ومساحة الموت
0 كانت الأيام ، تسير وفق ما اشتهوا وما أرادوا 000 فما كان عام 1948 00 حتي دخلوا فلسطين 00 وأسسوا وقتلوا وذبحوا وأنكروا 000 كان دخولهم تدعيما لوجود يخطط ويحدد وينفذ 00 قالوا أرضنا وبلدنا 000 وكنا ممزقين كما أرادوا 000 وكما خططوا وكما نفذوا 00 كنا قطيعا مشردا في أنفسنا ، وفي أحلامنا وفي واقعنا 0
دخلت الجيوش العربية الحرب 00وعلي رأسها جيش مصر دخل جيشنا بقواته وجنوده ، وبكل روح القتال القوية ، التي تحركهم 00 لكنهم فقدوا كل المعاني ذلك كان يسبب " الأسلحة الفاسدة " التي وأدت تلك الروح وحملتنا شهداء كثيرين 000 لكنها خلقت سببا أساسيا ، لقيام الثورة 0
ثورة23 يوليو 00 كانوا مجموعة من الشباب ، تفور في نفوسهم ، عاطفة جياشة نحو بلدهم ، تلك العاطفة التي حركتهم لدخول الحرب ، و تلك العاطفة التي دفعتهم للبحث عن واقع بلدهم ، فهي محتلة بالانجليز ، وهي عاجزة في حكم الملك ، عن أن تصنع النصر ، على عدو علي الحدود وآخر رابض فوق صدورنا في الداخل 0
وبقيام الثورة ، قام واقع جديد كان أهم مبدأ من مبادئها " بناء جيش جديد " قادر علي حماية هذا البلد ، وقادر علي بناء هذه الأمة بعيدا عن أي قوي ، تقتل لاتبني ، تشتت لا توحد ، لكن هل يسمح المغرضون بذلك ، لم يكن ليتم ذلك في ظل منطقة حيوية ، يطمع فيها الطامعون ، وإن تم فإلي حين ، إن معني وجود ذلك ، أن يعود إلي الأذهان إمبراطورية محمد علي الكبير ، إمبراطورية مصر وما فيها من حماية الرقعة العربية ، علي امتدادها ، وتكثيف الطاقات لبناء تلك الأمة علي ضخامتها 0
كان ما كان وكانت حرب 1956 ، بداية الصدام ، مع تلك الثورة الفتية ، لابد من إجهاضها ، قبل أن تشب عن الطوق ، لقد تجمعت المصالح ، لتخلق التحالف ، ولتهاجم إسرائيل الوليدة ، الجيش في سيناء 00 ودائما وأبدا سيناء كما قلنا قنطرة التواصل ما بين الشام ومصر ، ما بين آسيا وأفريقيا ما بين شمالها وجنوبها ، بوابة الاقتصاد.. ووضحت الصورة وإكتملت 000 بدخول فرنسا وإنجلترا الحرب في بورسعيد 000 رأس القناة ومفتاحها 00 كان السبب ملائما 0
لقد أممت " قناة السويس 00 كأن رد جزء لمصر ، مات فيه الآلاف من الفلاحين وهم يحفرونها ، وكم تحملنا منها فهي أيضا سبب دخول إنجلترا مصر.. عن طريقها دخلوا وآه يا مصر يا حلة الزمان ويا حاملة قرابين الآلام ،
تعطين العالم الحياة 000 ويعطونك الموت سما مذابا في كأس من العسل 00 دخلوا وأشاعوا فسادا وضلالا وحربا نفسية ضارية ، لتركع أيها الشعب لتقدم القرابين كما قدمتها لإلهتك من قبل ، لكن إرادة هذا الشعب ، كانت اقوي من كل الضغوط
،
الإرادة ة هي السلاح 000 السلاح الذي حارب الطائرة ، وحارب المدفع ، وحارب القوة ، وإستشهد الكثيرون ، من جيشنا ومن شعبنا 00 ولكن الأرض ما زالت بيننا جميعا ، يد واحدة من كل ألايادى000 توحدت وتجمعت وتوزعت شرايين قنوات محفورة 000 عبر الأرض ترويها وتدافع عنها ....شرايين نابضة بكل الأماني العظيمة 00إنها أمة لا تعرف غير الحق حتي ولو دفعت كل الدماء سدا ضد الغزاة 000 تظل تجدد خلايا ها وتبني من جديد 0
كان " محرم فضالة " إبنا من أبناء قريتنا ، رأي ما رأي وشاهد ما شاهد وقاتل ببسالة ، حتي إستشهد ، حمله زميل له وواراه التراب ، وكان بذلك أول شهيد من شهداء قريتنا ، أنني لا أتحدث عن بطولة فردية ، فالحرب ليست بطولة فردية ، ولكنها بالدرجة الأولي ، بطولة جماعية تشارك فيها كل الأسلحة ، في تكامل وتناسق وميزان ، ولكن البطولات الفردية ، هي حبات اللؤلؤ ، التي تزين البطولة الجماعية ، هي المصابيح التي تكلل اللوحة الجميلة ، وما البطولة الجماعية إلا تكامل للبطولة الفردية لكافة الجنود ،إنها المهارة القتالية ، علي مستوي الجميع ، وعلي مستوي الفرد ، لقد كان " محرم " بطلا من الأبطال ، كما فعل غيره الكثيرون وعندما تحدثنا عنه فنحن نتحدث عن كل أمثاله فالصور قابلة للتكرار كما أن أعمال العظام قابلة للتكرار ، ليس بنفس التماثل ، وإنما بنفس المستوي كان هو ، أول الغيث من مطر قريتنا التي هي صورة من كل قرانا ومدننا ، روي تربتنا المتعطشة ، لدماء ذكية جليلة تعطش الحب الذي يعطي النبت لمائه، بداية لشجر البناء شجر الحياة ، فهو لم يكن موتا بقدر ما كان حياة 0
تستمر الحياة ، بإستمرار الحرص علي الحياة وتموت بموته وما رجاء الأمم إلا أن تبني وتشيد وتعطي لأبنائها راية البناء مرفوعة عاليه ولكن الأمم ، لا تقوم بالبناء وتسلم من أذي الغير ، فيد الهدم سلاح في أيدي التعساء ، معولا في الهدم وفي التحطيم وفي التفتيت، سميها ما شئت من تسميات أو حللها ما طاب لك ذلك وأرجعها لشهوة القتل أو شهوة الاغتصاب أو شهوة الاستغلال أو طمعا في الاقتصاد وهو أهمها سببا وأبرزها وسيلة سواء أكان تلميحا أو تصريحا.
قد يقول قائل " أنت لا تكتب كما يراد للقصة أن تكتب وأن تكون وأقول له أن كل كلمة تكتب هي تحكي وتروي وتسجل وما ذلك جميعا إلا عناصر قصة ( تلضمها في خيط واحد كما يجمع العقد حباته في خيط واحد ، وكما قال الدكتور طه حسين ( في قصته أو قصصه ( المعذبون في الأرض )
أنني أريد أن اكتب وأسجل كما أريد أن أسجل ، وقد أحكي عن شخصية من قصصي فأترك الحبل وقد أشده وهكذا ، وما يحلوا لي هو ما أقوم به ، دون نظر لقارئ أو ناقد ، فإذا ما أرادوا أن يقرءوا أو يحللوا ، فعلوا ما يحلوا لهم ، وإذا لم يفعلوا فهذا شأنهم وليس شأني ) وأنا أسجل تاريخ في شكل سردي ولا أسجله كمؤرخ وإنما كقاص وأتبع في ذلك ما بلائم ذلك ، وماوصف ذكريا ت عن الأرض والحرب إلا تحليلا للتاريخ وسرد للوقائع ، ووصفا لبطولات ، هنا يحمل الكاتب ، كاميرا ليست فوتوغرافيه بقدر ما هي " كاميرا النفس البشرية " التي تري غير ما تري ، وتنظر غير ما ننظر 000
لقد وصلنا فر رحلة حياتنا ، أو في تاريخ شعبنا ، إلي قيامه بالبناء في كل شئ ، طموحا إلي حضارة قوية ، قائمة علي أساليب التقدم ، من اقتصاد قوي وجيش قوي وشعب مثقف وجيل يتصاعد إستمرارا وحياة وكنا قد عبرنا حرب 1956 ، بإنسحاب قوي العدوان أمام صمودنا وقوتنا وإرادتنا وأخذنا نأخذ بأسباب التقدم وإنتشرنا في قري مصر ومدنها نعمر ونبني وفي إسوان كنا نبني واقعا جديدا وسدا عظيما ، لكن يد الشر رجاء الشيطان ، تمتد بين آونة وأخري لتقطف الزهور قبل نضجها ، وتقلع الزر وع من أرضها لتعصر حياتنا عصرا ، وتلوي عنق طريقنا لويا ، لتوقف هذا الزحف البشري والعمراني ، علي طريق التقدم والرقي ، كأن مصر ذلك الفتي الذي قيدوه بالحبال ، ولم يكتفو ، وحملوه الصخور ولم يكتفو وجاء وا بالاسواط يلهبونه ، أسرع يحملك !! في ظل شمس حارقه ، كأني بها ذلك كأني بها في رحلة مسيرتها عبر التاريخ ، نموذجا للصبر ولكنه الصبر الوثاب غير اليائس ، دائما تجد لنفسها منفذا للخروج من القمقم .
كانت آية الشر ، تعد لحرب مرة أخري ... في 1967 ، حرب خدعنا فيها ..مرتان ، مرة بإهمالنا ، و أخري بمخادعة أنفسنا ، أننا لسنا مهملين ، كانت القيادة العسكرية منفصلة تماما عن الجسد العسكري ، كان العالم يتقدم علميا وهي تقود بطريقة الحرب بالسيف ، صحيح أننا نملك البشر أقوي عتاد ونملك الإرادة التي تحرك هذا العتاد ولكننا لم نعلم أو تجاهلنا ولم نحاول أن نعلم أن الحرب علم وفن ، وهي طريقة الشوك ، فلا بد أن نستعد له بالعلم والفن ، علم الحرب من هدف وتخطيط وتنفيذ ومتابعة وأدوات لكل هذا وبشر قادر علي استيعاب كل هذا وخطوط هرمية سلسة وواضحة ، وفن التكتيك والممارسة والمزج بين هذه العناصر ، لم نكن علي كل هذا ، كنا نخوض في حروب أخري فيما بيننا حروب لاناقة لنا فيها ولا جمل إلا اللامبالاة والسلبية ،
الصراعات في كافة الميادين توهتنا فيها شعارات مختلفة وبراقة توهتنا في بحور عميقة من الطرق ، يصعب السير فيها ، والي أين المنتهي !! ، في ظلام تلك البحور وحملتنا نحن الشباب الأمل فى أن نري وأن نسمع في نصر قوي وحاسم ، ملأتنا بالمعاني القوية الجياشة .
قامت الحرب وكلنا نعلم ولا نحلم أننا واصلون إلي تل أبيب ، فإذا بنا نقع خديعة الوهم وخداع النفس ولكنه بمنظار الرؤية نتيجة التشرد والتشتت النفسي الرهيب الذى وقعنا فيه بملء إرادتنا ، إنه فخ عدونا نصبه بمهارة ووقعنا ، فيه كما أراد وخطط ، وكانت النتيجة مزيدا من الشهداء وإنسحاب مهلهل!!
000 تحدث لي أحد جنودنا ، اسمه محي ألكرته أحد أبناء قريتنا ، نجي من الموت ولكن زملاءه ، ما توا وأياديهم علي السلاح كان حديثا طويلا ، يحكي قصة الانسحاب " أغارت الطائرات الإسرائيلية علي خطوطنا الخلفية وإنتظرنا نحن جنود المشاة ، أوامر الاستمرار ، ولكننا فوجئنا بأوامر الانسحاب لم نكن نعرف ماذا كان ؟ !! ليتم الانسحاب ، وحدث هرج ومرج ، وحملنا عتادنا الخفيف ، بعد أن دمرنا الأسلحة المهمة وأيضا الوثائق المهمة / وعدنا إلي الخلف
وتقاذفتنا الطائرات الإسرائيلية ، لقد لعبت معنا لعبة القذارة كان الطيار يصطادنا واحدا واحدا " بسلاح الفيكرز " ، كما يصطاد الانسان عصفورا من العصافير ولم تكن لنا أي حماية جوية أو أرضية ، وسرنا في طريق طويل سعيا إلي العريش ، ركب منا ما ركب وسقط منا ما سقط ، شهيدا ،
وحمل بعضنا المجروحين ، وكان ذلك صعبا في هذه الظروف ولكنه الواجب الذي خرجنا من أجله ، كنا كمن أصيب بضربة قوية في الدماغ ، فنحن مكشوفون في صحراء قاسية ، ونحن نجري بدون هدف الكل يبحث عن مكان يلتجأ إليه ، ورغم ذلك كانت هناك بطولات ، ولكنها بطولات فردية ، لم تقاوم هذه الترسانة المسلحة بوحشية وبهمجية 0
سرت أنا ومجموعة من زملائى، وقد تورمت منا ألاقدام،وﺬهب من العطش كل سبيل وأنهك الجوع كل معدة .
إخترنا طريقا غير مطروق ،فالطريق الرئيسى تجوبه الطائرات وإنتشرنا جميعا على الطريق الفرعى وتقدمنا فى طريقنا ،لانجد سوى أوراق بعض الشجيرات نقضمها ونلوكها فى أواهنا وشعرنا بقرب دورية إسرائيلية تمشط المنطقة فإختبئنا فى مغارة جانبية،وسمعنا طلقات الرصاص تقترب منا ،وإزداد الصوت أكثر فأكثر،وسمعنا كلمات التسليم من خارج المغارة،وحبسنا صوتنا جميعا،وتكرر النداء،ولم نخرج ،فمارأينا إلا عاصفة من الرصاص تحاصرنا،وتنفﺬ داخل المغارة .
إحتمينا بالجدران وسقط بعض الزملاء وأصابتنى شظية فى أماكن متفرقة من وجهى ،- مازالت ملامحها كما تراها الان- فسقطت أتلوى من الألم .
كنا جميعا فى حالة سيئة فلانوم ولاأكل يشبع من جوع،ولاماء يروى من عطش،وألقوا قنابل الدخان وزحفناعلى أرض المغارة بحثا عن الهواء وأعقب ﺬلك إقتحامهم للمكان وأﺧﺫونا جثثا تتردد فيها الروح.
رموا بنا فى عربات مقفلة ،دون تفرقة بين سليم وجريح،وتحركوا بنا دون أن ندرى إلى أين،وتمر الساعات والساعات حتى وصلنا إلى معسكرات الاعتقال فى تل أبيب،لقد أهملوا جراح بعضنا حتى أصيبت بالغرغرينة وتم البتر مابين الساق أو اليد أواﻠۮراع أوالقدم،سحبوا منا أجزاء عزيزة علينا،كأنهم بعملهم يحيلون دون عودتنا مرة أخرى إلى جيشنا الحبيب.
مارسوا معنا كل وسائل الحرب النفسية والبدنية في محاولة منهم لإثبات قوتهم وعظمتهم وضعفنا وضعف قيادتنا.
مرت الأيام وتبادلنا الأسري وعدت ، عدت إلي بلدي في حالة ذهول لم أبرئ منه إلا منذ مدة ، فلا نحن إستعددنا ولا نحن حاربنا ، عدنا جميعا مذهولين ، من كل شئ ،حزاني علي زملاءلنا ، سقطوا وهم يقاومون حتي الموت ، منهم من تفحم وهو يحتضن مدفعه ومنهم من سقط في الطريق ومنهم من مات عطشا أوجوعا ومنهم من مات محترقا بقنابل النابالم المحرقة دوليا ومنهم من مات نتيجة الإهمال في العلاج 0
كان هذا هو حالنا ، في " حرب الستة أيام " كما أطلق عليها الخبراء وكانت نتيجة الحرب إنهيار نفسي كامل في القيادة وفي الشعب وفي الجنود ، لقد كنا كمن أخذ علي غرة فلم يستطع أن يفعل شيئا ، ولكن هل أخذنا حقا علي غرة فلم نستطع أن نفعل شيئا ! أبدا فقد كنا نقول ، لكننا لم نفعل أبدا ، كان العمل ينقصنا ، العمل هو مرآة التقدم في كافة الميادين والاستعداد بالعلم وما يتطلبه من توظيف كافة الجهود له ، وكنا كمن عاش يحلم حتي صدق حلمه فنام علي ذلك وهو قائم وهو جالس وهو يقظ كانت الصورة براقة لكننا لم نفحص النسب بين شخوصها ولم نحدد ملامحهم الحقيقة 0
هكذا كان ما كان ، حتي أن وزير الدفاع الإسرائيلي ، إانتظر مكالمة تليفونية من القاهرة بتوقيع الصلح 0
لكن هذا الشعب ، رغم كل الآلام التي تعصف به ، وقف كما يجب أن يقف ، وقفة تمنع الانهيار الشامل في النفوس وفي البناء ، وفي الرجال ...وبدأنا مواجهة العدوبمعركة رأس العش مجموعة من رجال القوات الخاصة ، وقفت تواجه محاولة العدو ، دخول بورسعيد بعد ما وصل بقواته وجنوده ، إلي شاطئ القناة الشرقي ، وكانت هذه أول نقطة توضح له أن النفوس قوية والعزيمة أبية وان هذا الجيش وهذا الشعب لا يمكن أن يركعا أبدا ، فقد نحت الشعب حياته من طينه هذا النيل ، وتأصلت في نفسه كل معاني الكرامة والآباء إذا أن الأرض أرضة ، والفعل فعله ، فليس الآخر أن يفرض الفعل وأن يقترض الأرض إلي الأبد ، بقوة العدوان والجيش يمثله أبناء الشعب وهو رمح الشعب القوى فى مواجهة الاحتلال.
كانت النقطة الثانية ، من سلاح البحرية ، وسلاح البحرية ، الذي نعرف عنه ما نعرف من بطولات قديمة العهد ، جديدة المعاني كلما مر عليها الزمان ، فعلها في معركة ذات الصواري بقيادة عبد الله بن أبي سرح عام 34 هـ ، وفعل المدمرة إبراهيم في حرب 1956 ودماء الدسوقي وجول جمال وزملائهما ،ليست بخافية ، تاريخ ممتد طويل من البطولات فجرتهما في لحظة الصمود الثانية -- بعد معركة البر فى رأس العش--- وغيرت بها الخطط العسكرية البحرية ، ذلك كان في أكتوبر 1967 حينما تصدت ( لنشأت ) صواريخ بحر ، للمدمرة الإسرائيلية إيلات ، ودمرتها علي مشارف بور سعيد ،وإنسحبت اللنشات ، بعيدا إلى ميناء دمياط القديم بالقرب من رأس البر 0
لقد كان نصرا كبير في هذه الظروف الحرجة ولكونه سلاح جديد يستخدم لأول مرة أو بهذه الكيفية 0
أما النقطة الثالثة في الصمود ، فقد كانت من داخلنا نحن الشعب وفي ترتيبها قد تكون الأولي ، وقد تكون الثانية ، زمنيا ولكنها الأولي لأن أمة بدون شعب ليست بأمة فهى أمة بشعبها قانونا وواقعيا وبكل المعايير ولم تكن مظاهرات الشعب في التاسع والعاشر من يونيو تدعيما لزعيم ، بقدر ما كانت إيمانا بالصمود ، كانت إعلانا ، بأن الطريق ما زال ، هو طريق الشعب رغم كل الظروف والأهوال ، رغم حجم التكلفة وعبئها بشريا وماديا ومعنويا ، إنها لحظة المواقف التي لا يقدر عليها إلا شعب عظيم .
**************
في قريتي عشنا شبابا ورجالا ونساءا وأطفالا وشيوخا هواجس كل ذلك ، ووقائع كل هذا ومر الزمان متخللا بأصابعه القوية في خصلات من شعر الرءوس وترك ملامحه علي كل الوجوه وتغيرت وجوه ، و ظهرت وجوه ، وكبر الصغير ومات الكبير وإستشهد محمد جمعه شتيه و المليجي البهنساوي ومحمد جمعة السنباطي وآخرون إستشهدوا في الحرب الأخيرة .
****************
كانوا في أسلحة مختلفة وأدي كل منهم واجبه وعاد من عاد ، إلي حياته المدنية ، يساهم فيها بنصيبه ، بضريبة الدخل ، وضريبة البناء ، وكم هو عظيم في مثل هذه الأحداث كان الجميع أفراد من بلدتنا ،عشنا معا ، ولعبنا معا ، وضحكنا معا ، وبكينا معا ، وكان لكل منهم ومنا هوايات مختلفة قد تعجب لها وقد تضحك منها أو عليها 000 ثم فجأة ذهبوا وعاد منهم من عاد ولم يرجع من كان طريقة آخر ، طريق الاستشهاد ، ذهبوا ولم يعودوا وإنتظرناهمم جميعا ، ، إنتظرناهم دون جدوى ، كإنتظار ( جودو ) في رواية بكيت... تركوا عائلاتهم ، وتركونا كل منهم قصة وكل منهم بطوله ، منهم من يملك روح الدعابة ، ومنهم من يملك روح الجد ومنهم الغني ومنهم الفقير ، طباع مختلفة وخصائص متنوعة لكنهم في كل هذا ، حياة مدنية بكل ما فيها وما عليها ، كم تقابلنا في مواعيد لهو ولعب ، ومواعيد جد وعمل 0
منهم الرياضي ومنهم المثقف ، صاحب الشهادة ، ومن لم يكمل تعليمه لكنهم جميعا إنخرطوا في سلك الجندية لم يفرق بينهم 00 إعفاء مقابل المال ، كان ذلك عهد ولي وإنقضي حينما كان القادر يدفع ( الجهادية ) مبلغ من المال يعفيه من الجندية 0000 والفقير يذهب لأنه لا يستطيع أن يدفع لم يكن عدلا أن يدفع الفقير كل شئ يدفع حياته شقاءا وعناءا ويدفع حياته دفاعا عن الوطن وآخرون دفعوا مالا ، ما هو إلا ثمرة كد هؤلاء الفقراء دفعوا وسكنوا إلي الراحة والدعة 00
إنتهت هذه الأيام وصار الجميع في خدمة العلم ، جميعهم يؤدون الواجب وتحت نفس السلاح ، لا فرق ولا إستثناء الا بالعمل الشاق.
كان رفاق 1967 000 شباب في عمر الورد كانوا معنا رجالا وفي الحرب رجالا ، حملوا معني كبيرا وحملونا معاني أكثر حجما وأعمق أثرا ، فقد ذهبوا وبقينا ، حملونا أن نؤدي واجبنا ، كل في ميدانه 0
كانت الحرب قد إنتهت لكنها إستمرت على بلدنا وعلي إقتصادنا ، فلقد إنتهت مرحلة في مراحلها العديدة ، لكن إخوة لنا من مدن القناة ، كانوا في متناول الأعداء علي الضفة الشرقية كانوا تحت رحمة جلاد يهم وكان لابد من تهجيرهم إلي الدخل ، وأتوا بيننا إخوانا مهاجرين وما هم بمهاجرين ، وعاشوا بيننا كما فعل الأنصار بالمهاجرين المسلمين 0000
عاشوا بيننا 000 زهور مختلفة في بستان واحد ، منظر جميل ورائحة ذكية ، عائلات ما بين عجوز وشاب وصبي وصبية رجل وامرأة ، وتمازجنا جميعا وتلاقينا وتعارفنا ، وعرفت القرية
وضعا جديدا ، وتكونت أسرا جديدة كان اللقاء والحوار لا ينتهان ، وكان العمل لا ينتهي ، كانت حياتنا محملة حقا بثقل المشاكل وما حياتنا الا جزء من حياة مصر ، وحياة كل مصري ، فالاقتصاد عبئه ثقيل ، كيف نغطي كل التكاليف الفادحة 000 لكن نبض القلب لم يتوقف 00 رغم الألم والمرارة ، رغم تشتت النفس ، كنا نلتقي جميعا ، نعيش حياتنا في عمل دائم أو مذاكرة أو لعب كرة أو فرح أو حفل أو حتي لقاء عزاء ، وعرفنا رغم كل ذلك صور من الحب 000 حب واسع بكل معانيه وقد يضيق في نظرة ذاتية ، ما بين فتي أو فتاة مهاجرة كانت أو مهاجر كان 000 إبن القرية كان أو ابنتها ، كأنها صيغة جديدة لهذا الوضع الجديد صيغة ربطت الجميع برباط قوي ، كأنه إعلان عن الصمود داخل نفوسنا ، حب علي مستوي فردي أو حب ممتد يشمل الجميع ، قد تكون هناك بعض السلبيات لكنها لم تخدش البناء أبدا وكيف يتأتي ذلك الخدش ؟ والعدو ما زال علي الضفة الشرقية ، ويعربد ما حن إلي ذلك ، في أراضينا وفي العمق 000 لقد أصبحنا جميعا في خندق واحد وفي بوتقة واحدة ، وفي مواجهة فوهة مدفع واحد 000 لم يكن هناك ما يشوب ، إلا ما يتعلق بحياتنا اليومية قبل الحرب أو بعد الحرب ، لكننا كنا جميعا نلعق الهزيمة وكانت نفوسنا وأجسادنا وأرواحنا وعقولنا تعيش هاجس التحرير وما زالت نفوس إخواننا المهاجرين تهفو إلى العودة إلي مدنهم وقراهم ، في سيناء وفي مدن القتال 000 ما زالت النفوس تريد ، لم
يضيعها اليأس ولم تنسها الأيام معني العودة ،المكان موجود والعمل موجود والحياة ممتدة والحب موجود ، لكن لعبق الأرض رائحة خاصة تستقر في الأعماق ، أرضهم أرضنا ، فيها تربوا وعاشوا ونموا 000 لكل مكان فيها ذكريات 000 ذكريات العمر كله ، كانت الأرض تناديهم ، هلموا يا أبنائي ، يا قطعة مني ، يا دماء تمشي في عروقكم ، يا تاريخ ، جدائل الزمان فوق وجوهكم ، بل في تجاعيد وجوهكم ، في نبضات قلوبكم ، كانت الأرض تنادي كل أبناء مصر ، الشارد والوارد ، البعيد والقريب المدني والعسكري 0
وكنا علي الطريق لكن الطريق طويل وشاق وكنا نعمل ونعمل ونستعد وكان حزننا طاغيا ، وكنا نفرغ الحزن في ممارسات مختلفة ونشاطات متنوعة كان أهمها وأصبها
إلي نفوسنا 000 لعبة كرة القدم 0
في الملعب تقابلنا جميعا ، لا يحصر عددهم ، سجل بين الأسماء والمواعيد والأمكنة ، لكنني أذكر منهم ( زكي شتا ) أحد أبطالنا فيما سيأتي فيما بعد وعزت الدمياطي من بلد مجاور
وهو بطل آخروآخرين كثيرين ما بين مدرب ولاعب ومتفرج ما بين رياضي أو مثقف أو عامل أو فلاح أو موظف أو جميعهم خليط من البشر أمزجة مختلفة ، لكن يجمعهم حب واحد 000 هو حب مصر 0
في هذه المرحلة من حياتنا دعاهم داعي الشرف فلبوا النداء كانت المرحلة مرحلة الصمود ثم مرحلة الردع كانتا المخاض الذي يمهد لاستقبال المولود ( أكتوبر العظيم ) كانوا زملاء ملعب وجنودا في جيش مصر يذهبون ويعودون في أجازات تقضيها معا في لعبة كرة القدم 0
أقمنا الدورات الرياضية وتبارينا مع البلدان المجاورة وتشاجرنا وتصالحنا و( غصنا )
في أوقات أخري في ذكريات حياتنا عن القرية تحدثنا وعن الحرب تحدثنا وعن الموقف الدولي تحدثنا وعن صرا عات الدول الكبرى تحدثنا وعن أثر كل ذلك علي قضيتنا و مشكلتنا تحدثنا ، أبدا لم نكن شبابا سلبيا كان حديثنا بانفعال ولكنه إنفعال الحالم بشئ أفضل لبلده ، وأول هذا تحرير الأرض ولم يخلو حديثنا من مشاكلنا الذاتية ، كان كل منا ومنهم ، من جنودنا ،إخواننا ، وأصدقاؤنا، كان لكل أحلامه في أن يحب وأن يتزوج ،و أن يجد العمل الملائم له بعد الخروج من الجيش ، أو يكمل تعليمه ، أو يبحث عن مصدر لتأمين رزقه أو زيادة دخله يحل مشاكل أسرته ، فهذا لديه أسرة عريضة وإخوة ، أصحاء ، أم معوقين كل منهم له مشاكله الخاصة وكل منا له مشاكله الخاصة ، ولكنها دائما ما تذوب ، تذوب كما يذوب الجليد تحت الشمس ، ذلك حينما يعود الجندي إلي وحدته أو حينما نتحدث عن التحرير ، أو حينما نسمع منهم عن الاستعداد والتدريب ، صحيح أن حديثهم في هذا الشأن ، كان يقابل من البعض بالاستنكار اذ أنه ليس من الملائم عسكريا ، الحديث عن ذلك الا أن حماس الشباب وإنفعاله ، وثقة الجميع في مسئوليتهم فيمن يقول وفيمن يسمع ، كان مبررا لأن نسمع ونشهد ، ومبررا لأن نقرأ فيما يحدث من أحداث تسطرها أجهزة الإعلام جميعها ، من إذاعة وتليفزيون وصحافة ، فنربط بين ما سمعنا وما شاهدنا وقرأنا.
كم قصوا علينا ، بعض ذكريات العبور والاستطلاع ، أثناء حرب الاستنزاف كيف عبروا وتوغلوا وعادوا بالأسري 000 كانت مرحلة عنيفة علينا جميعا أثارت علينا غضب العدو فلم يكن يتوقع وقد وصل إلي شط القناة وحصنه تحصينا شديدا فوق تحصينه الطبيعي 000 بما أمامه من موانع ، كالقناة 000 " مانع مائي " وما أقامه ، فيما يسمي خط بارليف بطول إمتداد الشاطئ محصنا تحصينا
شاملا ، يحميه ساترا ترابيا ضخما ، ويتكون من دشم قوية عبارة عن نقط محصنة بالخرسانة المسلحة ، وقضبان السكك الحديدية على مسافات متقاربة علي طوال خط القناة ، ومزود بكافة الأجهزة العسكرية من إستطلاع ورصد ، وأبراج مراقبة ومزود بالأجهزة الحربية المختلفة وفي خلفيته مصاطب للدبابات ، تعلوها لتضرب ثم تنسحب إلي مرابضها المحصنة ويمتد منه علي طول خط القناة ، مواسير مملوءة بالمواد القابلة للاشتعال لتحيل مياه القناة إلي كتلة من اللهب في وقت واحد اذا ما حاول أحد العبور ، لم يكن لدي أي فرد منهم أدني إحتمال لاختراق هذا الخط حتي أنهم صوروه إعلاميا وبحربهم النفسية بأنه أقوي خط محصن في العالم ، حتي أنه فاق خط ماجينو الشهير ، لذا كان ردود فعلهم عنيفة ، لدي تسلل قواتنا بين وحداتهم وإستطلاع ما يتم ، وتدمير ما يقابلهم من عدو وأسر بعضهم ، كانت ردود فعلهم عنيفة علي مدننا وقرانا 000 إذ لم يكن يتوقع أن نظل صامدين وندخله في مثل هذه الحرب الطويلة وهو الجيش القائم علي الحرب الخاطفة ، فكان يرد بعربدة في كل مكان 000 من مصر 00 بطائراته 000 ولعلنا نري في عمق أعماقنا ذكري مدرسة بحر البقر بأطفالها وعمال أبي زعبل بعرقهم وقناطر نجع حمادي بمياهها وما زلنا نذكر مدن القناة ونذكر الدمار الذي لحق بكل شئ 000 مدنيا كان أو اقتصاديا أو عسكريا 000 مازلنا نذكر ونجتر الذكري
000 كان العدو يريد أن يحطم روح هذا الشعب كأنه الجلاد وقد ذبح فريسته ووقف يرقبها ، وهي ترفرف حتي تسكن ، لكن هذا شعب وشعب أصيل له ألف روح ، إن مات فرد حمل الراية آخر وإن ذهب زعيم حمل المسئولية زعيم آخر ، كان لابد لنا من وقف هذا القهر وتلك العربدة لمجرد زخات من جنودنا لعدو رابض علي شط القنال وكان أهم شئ هو إيجاد وسيلة دفاع جوي قوية ومؤثرة وكان ذلك هو بناء حائط الصواريخ 000 الذي أسقط الطائرات كما يسقط المبيد الحشرات
********************
مصر زاخرة بالرجال ، إبحث عنها فيهم وأمعن النظر ، ودقق ، ستري جنودا شامخين ، جنودا كلفى موقعه ، لا تهزك بعض السلبيات ما هي إلا قشور ، أزلها وتأمل ما أعطي الله ، تأمل ما أعطي الله ، تأمل في أصالة المعدن ونقاءه ، إبحث عنهم في كل موقف وفي كل زمان وفي كل مكان ، ستجدهم منتشرين يعطون الحضارة جهدهم وعرقهم ودمائهم إذا ما تطلب الأمر ذلك قد تجد الدعابة وقد تجد اللهو وقد تجد اللامبالاة ولكنك حينما يدق الأمر ويحين الطلب ، وتبحث عن الرجال ستجدهم حقا ستجدهم ، وبسهولة وبسيولة حيث تضع يدك وحيث تجول عيناك وفي حالتنا وما نحن فيه ، بحثنا عن الرجال وبحثوا عنا ، ووجدنا أنفسنا ، نلملم بعضنا البعض ونخط صفحات من الفخار ، علي مدي الزمان 0
******************
كنا نحتاج إلي بناء حائط الصواريخ ، والبناء سهل ، رغم فنيته ولكنه صعب وأصعب حتما حينما يكون تحت ضرب القنابل ، وضرب الصواريخ جو أرض من جانب العدو ، وكنا نحتاج إلي نقل وتوزيع وإعادة البناء للمصانع ، من مدن القناة بعد ضربها وكان أهمها مصانع تكرير البترول وكنا نحتاج إلي بناء دشم جديدة للطائرات ، متعددة ومتنوعة وممتدة علي طول البلاد ، بعدما فوجئنا بضرب الطائرات في حرب 1967 ، والطيارون في مواقعهم بدون إنطلاق كنا نحتاج إلي رجال كثيرين في كل موقع وفي كل مكان وعلى مدي الأيام نحتاج إلي مستشفيات مجهزة بالكوادر الفنية والإدارية والآلية لاستقبال ضحايا الحرب وما يترتب عليها ونحتاج إلي نقل دم من متطوعين ونحتاج إلي تعبئة الروح في كل مكان 0
مصر كما قلت زاخرة بالرجال ، حينما يحين العمل ، وتدلهم الصعاب وفكري محيلب واحد من هؤلاء ، فلاح من قريتنا ، ترك المدرسة بعد المرحلة الابتدائية وتعلم مهنة النجارة ( النجارة المسلحة ) في مجال المقاولات ، وأتقنها كما أتقنها زملاء كثيرون له في بلدنا الحبيب ، وهو شاب ، قوي يافع أسمر اللون ، أجش الصوت يخط وجهه شارب عظيم يحب الصحبة ويتحدث أحيانا بلغة المثقفين ويتواضح رغم معرفته أنه لا يجاري المثقفين أصحاب الشهادات وهو صاحب نكته حاضرة ومواقف رجولية ويطيب له دائما الحديث بلغة أهل الصعيد وهو من دلتا النيل في بحري وهو في كل هذا يتخذها علامة من علامات الرجولة فهو يقول دائما أن الصعيدي رجل ولا كل الرجال 0
*************
ترك فكري القرية ، وإلتحق بإحدي شركات المقاولات المصرية ، وتنقل معها ، ما بين إسوان حتي الإسكندرية ، يقيمون البناء ، ويشيدون العمارات ، وينشرون العمران والحياة ، في كل مكان من أرضنا وعندما كلفت شركات المقاولات المصرية بالمساهمة في بناء " دشم الطائرات " قاموا بالعمل علي أكمل وجه ، وبأسرع ما يكون وعندما كلفوا ببناء دشم مواقع الصواريخ قاموا بالعمل بنفس الكفاءة وبنفس السرعة ويحكي فكري عن ذكريات هذه الأيام فيقول
" كنا نعمل ليل نهار ، في إنجاز المهمة وكانت غارات الطائرات الإسرائيلية لا تنتهي لم تكن تريد لهذا البناء أن يتم وبمجرد إنتهاء الغارة ، كنا نعمل وقد يتم تدمير ما قمنا به ولكننا لا نيأس، نعيد البناء من جديد ، وقمنا ببناء مواقع تبادلية كثيرة ومواقع هيكلية ، ، ولم يكن العمل سهلا ، لم نكن ننعم بالراحة كنا نلتقط الساعات القليلة ونصحوا لنكمل العمل البناء وكانت النتيجة نجاحنا في إقامة الخط الأول والثاني وهكذا ولكن نجاحنا تم ، بدماء زملاء لنا إستشهدوا وهم يعلون الجدار ويرفعون البناء "
وعلى نفس المستوى كان العمل المدنى فعندما تم نقل مصانع البترول إلي مواقع جديدة كنت واحدا من العاملين في هذا البناء الجديد في قطعة من الصحراء بالقرب من مدخل الإسكندرية عينت محاسبا بهذه الشركة المنقولة من مدن القناة ، كان ذلك قبل حرب أكتوبر 1973 بسنتين ، وهناك وجدت رجالا كل في موقعه تركوا بلادهم وتركوا عائلاتهم وتفرغوا لإحياء هذه الصحراء ، وفي نهاية عملي بهذه الشركة كانت أجهزة التقطير وزيوت التزييت وكافة الأجهزة المعاونة ، قد بدأت في العمل وفي تكرير البترول وتحولت قطعة الصحراء إلي مداخن ، يرسم دخانها في الهواء علامة التحدي وقبول الصعب وإظهار الرجال بكل معانيهم العظيمة ولم يكن هذا في هذين المجالين وإنما في كل مكان في المستشفيات وفي المصانع وفي الحقول وفي كافة مواقع العمل كانت روح جديدة تريد ما تريد من تحرير ومن إستمرار الثبات علي المبدأ رغم كل التحديات ورغم الصواريخ ورغم القنابل بكل أنواعها ورغم صفارات الانذار ، كان تحديا لشعب مصر وكان شعب مصر علي نفس المستوي 0
مصر معطاءة وإذا ذهب زعيم حمل الراية زعيم آخر وهي أهل لذلك منذ عمر مديد وأبسط شجرة الزعماء .لتري ذلك ولا تعجب ولا تدهش فهي أهل لذلك وقادرة دائما برجالها وتولت الزعامة الجديدة ، البلاد في ظل هذه الاستعدادات وفي ظل التكاليف الضخمة للحرب ، كنا نتكلف يوميا ، مليون جنيه في حرب الاستنزاف ، فالمعارك في العصر الحديث مكلفة
وباهظة ، ولا يتحملها أي شعب ، إنك تكرس كل شئ ، للمعركة ، وتدفع بكل طاقتك من أجلها .
**************
في الداخل بدأت روح الشباب قلقة منفعلة ، بتأخر التحرير وتأجيل القرار فيما سمي بعام الحسم
كان الشباب قد إنتابته موجة من اليأس بأنه لا حرب وأيضا لاسلم ، فالجميع يزرع اليأس والقيادة السياسية تتحدث عن التحرير وكان الحديث كلام وكلام كأنه يذكرنا بفن الكلام ، وليس فن الفعل إعتقدوا أن التاريخ يعيد نفسه ، فالجو العالمي قد وصل إلي مرحلة الوفاق وظهر لقاء نيكسون وبرجنيف ، ليظهر هذه المرحلة مرحلة الوفاق وأطلق قائد الأمة ، أنه عناق وليس وفاق ، وحقا كان عناقا طويلا نقل منطقة الشرق الأوسط إلي مرحلة الاسترخاء وقبل ذلك إنشغل العالم بحرب باكستان والهند ، وتزايدت تكاليف المعيشة في داخل البلاد وإتخذت القيادة عدة قرارات ، وأهمها طرد 18000 ألف سوفيتي ولم يلتفت أحد إلي مغزى هذا القرار ، وتحركت الدبلوماسية المصرية في إفريقيا لتحدث التأثير في التمهيد للحرب وذلك بتحييد الدول الأفريقية ، بتعنت العدو الإسرائيلي و تحركت في الأمم المتحدة لتحصل علي قرار من مجلس الأمن " 14 - 15 " عضو بإدانة الأسلوب الإسرائيلي وتطالبه بالانسحاب تطبيقا لقرارات الأمم المتحدة واعترضت أمريكا بالفيتو وكانت مصر تعلم بإتخاذ مثل هذا ، ولكنها أرادت أن تكشف أوراق اللعب جميعا ، ( وفي رأينا أن علي الدول أن تأخذ القرارات الكاشفة للمواقف من مجلس الأمن دون النظر إلي الفيتو فالعبرة بإتخاذ قرار شامل حتي ولو يتم تنفيذه إذ أن عدم تنفيذه في هذه الحالة يرجع إلي الفيتو وما دام ذلك ليس مرخصا لكافة الدول ألاعضاء فى مجلس ألامن فيكفيها العمل من أجل موافقة كافة الدول كتعرية لمن يتخذ قرار الفيتو وما قرارات الأمم المتحدة الا قرارات معنوية لا تفيد ولا تثمر) كما تحركت الدبلوماسية إلي أوروبا الغربية لتحصل علي تأييدها أو حيادها ، وبحق لقد حققنا تمهيدا في كسب الرأي العام العالمي إلي جانبنا، أو علي الأقل تحييده ، وفي المجال العربي ، إلتقت مصر وسوريا علي قرار الحرب وإلتقي العرب علي إستخدام البترول كسلاح مساعدة ، لذا فان إنفعال الشباب لم تكن فورة عاطفية برغم تشابكات السياسة العالمية وإنما كان دون أن ندري حركة من حركات الخداع الذي وقع فيه العدو الإسرائيلي فلا هو إعتقد أننا سنحارب ولا صدق الا شارات الخفية فقد أوقعه غروره في مصيدة الخداع وأوقعه معرفته لنا أننا نتكلم كثيرا ولا نفعل إلا قليلا في نفس الفخ.
إذ كانت نقطة ضعفنا ميزة في هذا الصراع ، ميزة لم يصل العدو إليها إلا بعد أن عبرنا الجسر جسر الكلام أغلقناه ، أما جسر العمل فقد عبرناه من شط الكلام إلي شط العمل ، وكم كان ذلك أيقونة علي جبين الزمان .وشىء جدير بالاشارة وبالتقدير هو الدور التحضيرى قبل وأثناء المعركة وبعد المعركة للجندى المجهول..رجال المخابرات العامة ورجال المخابرات الحربية فى الحصول على المعلومات ودراستها وتحليلها وتقديمها لصانعى القرار--- ومن يملك المعلومات فى الوقت والمكان الملائمين ويقدر على دراستها وتحليلها يملك النصر مقدما--- وهو دور من خلال منظومة القوات المسلحة.
********
من الشمال إلي الجنوب ، قناة طويلة ، تعد بالكيلومترات وعرضها تحت خط الرؤية تمتد من بورسعيد شمالا وتنحدر حتي السويس جنوبا ، فالبحر الأحمر الممتد طويلا ، حتي عنق الزجاجة ( باب المندب ) تقع علي الشاطئ الغربي ، مدن لها تاريخ في النضال المصري ، بورسعيد وحرب 1956 ، الإسماعيلية وتلاحم الشرطة مع الشعب ، السويس وشهرة عالمية في 56 وفي حرب العبور 1973 ، وفي خلفية الصورة ، تقع دمياط صاحبة التاريخ في الحرب الصليبية ، والمنصورة رفيقة الكفاح وأسر لويس التاسع والشرقية ، بوابة العبور بين الشام ومصر وطريق الأنبياء والفراعنة من والي الشام ، وعلي البعد تمتد القاهرة بخطوط المواصلات ، الممتدة لخط القناة وفي الشاطئ الشرقي ، تقع سيناء إمتدادا من العريش شمالا وسانت كاترين جنوبا ، حيث الثروات المعدنية والبترولية ، والمعالم التاريخية والآثار الدينية ، ونفحة التاريخ التي تهب بمقدار عواصف رمالها وشريط طويل من الذكري بحركة المد والجزر منذ تاريخ قديم ، يحتاج إلي كتب عديدة لتسجيلها ولم يخلف الوعد في ذلك ، كتاب آخرون ، عرضوا لها فأحسنوا وإستفدنا وإستفاد الجميع منها 0
***************
** حفرت القناة في عهد الخديوية ، وإفتتحت في عهد إسماعيل وحضرها جمع شامل من ملوك وملكات أوربا ، ورؤساء الدول والسفراء وتحركت البواخر فى اليوم الموعود مكللة بكل مباهج الزينة والحياة
وتناثرت السرادقات ، مزينة بكل الأضواء ... حفلة شاملة ومكلفة ، كأنها ليلة من ألف ليلة ولكنها فوق أجساد من الفلاحين المصريين ماتت في حفرها بطريق السخرة وسكبت المشروبات فيها ولكن دماء الضحايا جعلت الألوان حمراء كلوحة معلقة علي الحائط ولكنها حفرت شرايين مؤلمة في قلوب المصريين لقد كانت مدخلا لاحتلال إقتصاد مصر ، وكانت مدخلا لاحتلال مصر وسببا لحروب عدة ولكنها اليوم رمز للرخاء 0
************
من نظرة بعيدة نقترب رويدا لنري خرابا شاملا علي إمتداد مدن القناة ، الحياة الصاخبة إنتهت ، والمنازل أشباح متراقصة والمصانع آبار بترول نضبت وأطفئت شعلتها ، والناس أشباح خاوية من الرقص ، الحيوانات هجرت المكان ، صار مقفرا موحشا ، علي البعد من الشريط المحاذي للقنال ، الثمار الناضجة في حاجة إلي من يقطفها ، تدعوه هلم لبي نداء شفيتك !!0
ولا مجيب!! والأرض الزراعية لم يبق فيها غير عدد قليل من البشر رفضوا مغادرة أرضهم رغم ضربات المدافع وضربات الدبابات وسوا قط الطائرات ذات الألف رطل ولكنهم أثبتوا أن الانسان أقوى من أى شئ أقوى من كل تكنولوجيا العصر، لا تري في المدن إلا رجال عمل وجنود في الخنادق ، وجنود في المصالح الأساسية من شرطة ومستشفيات وخدمات الكهرباء والماء وغيرها 0
********************
**فى ظل هذا الجو القاتم على صورة الحياة ، لاتري إلا بين حين وحين ، زمجرة المدافع وأنين الدانات ورقصات الحرب المجنونة ، وعمل دائم لاصلاح النتائج اليومية للحرب ونبعد رويدا رويدا إلي القاهرة مركز العمليات الرئيسية ، ولا ندري ما يدور فما زلنا لم نعرف ماذا سيتم ؟ لقد عرفنا بعد الحرب ، ولم نعرف قبل الحرب ، كنا نشم الرائحة ، ولكننا لم نعرف أنها رائحة الاقتراب 000 من لحظة الصفر 00 كانت الخطط الموضوعة ، يتم تغييرها ، حسب الزمان والمكان ، وتعدلت خطط التحرير ، ولكنها لم تترك الخط الأساسي ، وإختلف القواد في وجهات النظر ولكنه إختلاف الحب وليس إختلاف الشقاق ، حتي إستقرت الخطة المبنية على المعلومات بعد دراستها وتحليلها ، وكم هو صعب أن تضع خطة تحرير وتنفذها في العصر الحديث ، وكل الأضواء مركزة عليك ، ففي عالم اليوم ، ليس هناك سر ، فالفضاء تجوبه الأقمار الصناعية ، التي تكشف كل شئ علي وجه الأرض ، وطائرات التصنت الالكترونية ، وأجهزة المخابرات والاستطلاع ، لا تستطيع أن تفعل شيئا والجميع يراك من كافة الاتجاهات ومن كل الزوايا ومن جميع المساقط المختلفة ، القول الحق ، أنها حماية من الله كللت الجهد والعرق والدم 0
****************
كانت الأسلحة المختلفة ، قد إكتمل إستعدادها تحت إمرة قادة ، تلقوا قسط عاليا من العلم والممارسة والثقافة ، من سلاح الطيران وسلاح البحرية ، وسلاح المدفعية وسلاح المدرعات ، وسلاح الدفاع الجوي ، وسلاح المشاة ، وسلاح المظلات ، وسلاح القوات الخاصة ، وسلاح الاشارة ، وسلاح المركبات وسلاح التموين والشئون الإدارية ، وسلاح الشرطة العسكرية وسلاح المهندسين وسلاح المخابرات العامة وسلاح المخابرات العسكرية ، وكافة الأسلحة المعاونة وأجهزة البحث العلمي وغيرها والتنظيم والادارة و التدريب ، إستوعبت كافة الأسلحة ، ما كلفت به من تدريبات ومناورات علي مستوي محدود أو مستوي كبير ، وتوزعت في أنحاء مصر ، في مناورات ضخمة ، تماثل نفس الظروف ونفس البيئة
ونفس الأجواء ، وكان كل سلاح يعمل فيما أوكل إليه من مهام ، وكانت المعلومات تصب جميعا في مقر القيادات ويتم تحليلها وتوزيع الأوامر المتعلقة بها وكانت ساعة الصفر تقرب ، وباقترابها ، مورست خطة الخداع والتمويه والتنسيق مع القيادة السورية 0
***************
** في التاريخ القديم قام خالد بن الوليد ، بعدة تغييرات في أوضاع القوات بحيث يشعر العدو بأنه أمام قوات كبيرة الحجم والعدد ، وبذلك إنهار العدو نفسيا ، ومن ثم عجز عن أن يكسب الحرب ، وإنتصر جيش خالد ، وفي خطة التمويه والخداع إنتقلت الأسلحة المشركة كل فيما يخصه في مناوراتها السنوية وسحبت فرق وتركت أسلحتها ، مموهة وعادت فرق أخري ، وإنتقلت حركة الخداع إعلاميا وسياسيا ، فأعلن عن ذهاب ضباط وجنود للعمرة ، وأعلن عن زيارات لقادة الأسلحة إلي بلاد خارجية ، وأعطيت الأجازات للجنود والضباط ، وتحركت الدبلوماسية في الأمم المتحدة ، بحثا عن حل سلمي ، كل التحركات لا توحي بحرب تقوم في التو وفي الساعة .
************
في الداخل ، كانت الحياة تسير علي منوالها الطبيعي وإنتقلت من الإسكندرية إلي دمياط في وظيفة جديدة ، وتقابلت مع أصدقائي القدامى وتقابلت مع زملائي في الملعب ، زكي وعزت وغيرهم ، ولم أسمع منهم شيأ ولم يقولوا شيئا ...كانت ملامحهم غريبة وإبتساماتهم أغرب، وكانت الطرق تقفل ليلا ، وتتحرك عربات عسكرية ، محملة بصواريخ ضخمة لم نكن نعرفها من قبل ، كنا نحس طعم شئ ما ، ولكن إحساسنا ، كان يغالبة يأسنا ، من أعمال 1967 ، كانت الناس تري وتبتسم وكان رمضان يثقلنا بفطاره الشهى ، والحلويات الدسمة وماءه العذب 0
علي شط القنال ، كان الهدوء الظاهري ، يلف المكان ، ولكن الحركة النشطة مستمرة علي الجانب الغربي للقناة ، ، كانت الأوامر قد صدرت ، محددة ساعة الصفر الساعة الثانية ظهرا ، وتحولت الاوامر مندرجة حتي أسفل الهرم العسكري ، وكانت هناك مظاريف مغلقة ، لا تفتح إلا في مواعيد محددة بها ساعة الصفر ، وتحركت القوات البحرية ، جنوبا حتي باب المندب
لا قفاله في وجه الامدادات للعدو ، وتحركت شمالا في إتجاه الساحل الشرقي ، وإستعد الطيارون لبدء ساعة الصفر 0
وعلي شط القنال إسترخي بعض الجنود ، علي شاطئ القنال وسبح آخرون وجلس بعضهم ، يلوك قصب السكر وبين مسافة وأخري كان آخرون يلعبون ، وجلس بعضهم يصطادون وكان منهم صياد عجوز يحمل في يده سنارة وقد عمسها في الماء وظل ينتظر في صبر وجلد أن تغمز السمكة وفي الخلف ، تكونت مراكز القيادة فى تسلسل حتي تصل إلي القاهرة
حيث أعدت غرفة العمليات الرئيسية ، وحدث بعض اللبس من وقف الطيران المدني الا أنه ما لبث أن عاد إلي وضعه الطبيعي ، وكنا جميعا في الداخل منصرفين في أعمالنا المختلفة وذهبت للتبرع بالدم للمرة الثانية منذ حرب الاستنزاف ، ولا أدري في أي جسد من جنودنا ، ذهب دمي ، لقد إختلط بأحدهم كما فعل غيري من شعبنا الطيب
****************
علي الجانب الأخر , وصلت معلومات مشوشة للعدو بإستعدادات علي الجبهتين المصرية والسورية وعلي درجة كبيرة من التجهيز ولكن العدو لم يصدق مثل هذا فغروره صور له أنه لا يمكن أن يحدث مثل ما ورد من المعلومات وكان اليوم يوم سبت وإجتمع الوزراء المقربون من رئيسة الوزراء ، وتناقشوا في الأمر ، إن هي إلا مجرد مناورات الخريف التي يجريها الجيش المصري ، وإتخذت الاستعدادات وتدارسوا الاحتمالات ودقت أجراس التليفون واللاسلكي وكافة أجهزة الاتصال ، ولم يظهر لذلك أثر سريع .
الشواهد تدل علي أن المصريين والسوريين ، قد إتخذوا قرار الحرب ، ووصلت المعلومات أنها الساعة السادسة مساء ، يوم السبت ، أجازتهم وعيدهم ، ودقت أجراس التليفونات واللاسلكي ، في عواصم العالم الكبرى ، مرة أخري وجرت الاتصالات ، لا يقاف عجلة الحرب 0
إمتطي الطيارون المصريون ، طائراتهم ، وشقوا بها الهواء ، في أسراب متتالية متجهة إلي مواقع العدو خلف خط القنا ة وفي عمق سيناء ، كانت الطائرات من طرازات مختلفة أدخلت عليها التعديلات اللازمة لجعل مجالاتها أوسع مدي وأكثر حركة ، كان منها القاذفات والمقاتلات ووسائل النقل و الهليكوبتر ، أدي كل منها الدور المخطط لها .0
***************
كانت الساعة الثانية وخمس دقائق ، وهم يعبرون خط القناة ، وإتجهوا إلي عمق سيناء وكان القذف مركزا وحاسما علي مطارات ومواقع صواريخ الهوك ، ومخازن التموين والزخيرة والأسلحة الثقيلة ، والرادارات وكانت الطائرات كثيرة وعديدة بلغت أكثر من مائتى طائرة وقد نجحت في قذفها المركز لقد إتخذت الطائرات لأول مرة ، قرار المبادءة بقرارمن القيادة ولم تفاجأ ، كما فوجئت في حرب 1967 ،( ( وهي رابضة في مطاراتها ) . لم تكن الطائرات إلا جسد بلا روح بدون طياريها ) ، لقد عاشوا الهوان بعد ذلك ، ليأتي اليوم الذى يمحون فيه عار سنين مضت .
الطيار يكلف اليوم مليون جنيه وهذا الاستثمار ، لابد له أن ينتج ، وليس معني الإنتاج ، أن نقتل من أجل القتل بل كان الهدف أسمي وأرقي ، كان يدافع عن العرض وعن الأرض ، عن كل شئ وكانت الروح عالية.
عندما يسحب الطيار نفسه ، إلي داخل طائرته ينسي كل شئ إلا هدفه قد يمر شريط سريع من الذكريات ، عن أسرته وعائلته وإخوانه وأصحابه إلا أنه يمر سريعا في ذهن
صاحبنا وبطلنا ،الطيار صاحب حسابات دقيقة ولم يعد اليوم ، مجرد رجل حربي أنه يحسب حسابات رياضية معقدة ، كل هذا في ثوان عليه أن يحسب كل هذا وأن يمر علي إرتفاعات منخفضة ليهرب من الرادار ، ثم يصعد إلي أعلي ليهبط حمولته علي الموقع المخطط ، كل هذا وتقابله مشاكل عديدة ، من وسائل الدفاع الجوي أو بروز طائرات العدو .
كل ما يكون وما كان ، لحظات حاسمة ودقيقة ، تحسب في سرعة البرق والحديث عن طيارينا حديث طويل يمتد بعمر زمن هذا السلاح ، الذي يبلغ اليوم واحد وخمسين عاما ، خبرة ومران ومراس فى كل يوم جديد في هذا العالم ، وكما يقال " الرجل قبل الالة " قول حق وفعل أظهر ذلك ، لا أتحدث عن ( أخو الرئيس ) ، الذي إستشهد في أول طلعة ، فهو مثله مثل غيره ، مواطن من أبناء مصر ، أعطي نفسه لبلده ، ويعلم ذلك يوم دخل هذا السلاح ويوم عبر ويوم إستشهد ، ولا أتحدث عن نجاح الضربة التي هي بحق مفتاح النصر ، لقد كانت إسرائيل تعتمد علي القوات الجوية ، في كسب الحرب ، ضربة جوية مركزة ، وهجوم بري بالمدرعات وإختراق لجيش العدو ، بها كانت تكسب الحرب ، واليوم يحدث العكس تتلقى الضربة الجوية دون أن تدرى أن ساعة الحرب بدأت فى الساعة الثانية بعبور الطائرات المصرية ، وليس الساعة السادسة مساء كما علمت ، في يوم من أيام رمضان من شهر اكتوبر يوم عيد من أعيادهم أتحدث عن كل هذا وليس حالة بحالها ، وإن خط قلمي يخط مثالا عن طيارين إندفعوا بطائراتهم ، بعد ان أصيبت لتحطم موقع العدو ، هنا تحول طيارنا إلي طوربيد بشرى جوي فجر به نفسه داخل موقع العدو ، هنا جاءت لحظة التفجير ، التي تحدثنا عنها حينما ينتقل المرء ، من حالة الفعل إلي حالة العبور الروحي ، هنا ، تنقطع كافة الاتصالات عدا إتصالات الروح بعالم غير منظور لنا جميعا عالم ما بعد الشهادة ، بكل مالا نعرفه أو حتي نعرفه عن هذا العالم 0
لم تقتصر مهمة الطيران علي هذه الضربة ، بل تعداها إلي مهمات متعددة في معاونة القوات والأسلحة الاخري ، وفي الابرار الجوي لرجال المظلات ورجال القوات الخاصة وفي نقل المؤن والمهمات والأغذية ، وفي إخلاء الجرحي وغير ذلك من المهام الكثيرة التي يعجز القلم عن وصفها ، ووصف مثيلتها في ميادين القتال المختلفة ، فما نحن إلا( كتبه) ، نخط الحبر فوق الورق ، فعلناه منذ كنا صغارا في المدارس الابتدائية والاعدادية والثانوية والجامعية ورق نخطه ، كلام نقوله ، مكتوبا أو مذاعا أو مرسوما ، ولكننا كتبنا بالحبر وكتبواهم بالدم ، كتبوا بالدم ، أعظم الكتابات ، ورسموا بالدم
أعظم اللوحات ، ونطقوا جميعا في الجو وفي البر وفي البحر
الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر
*************************************
إشرابت أعناق الجنود ، في مواقعهم ، ليروا الطائرات ، تمر من فرق القناة ظلال ، أو غمامة ، كان أثرها في النفوس عظيما ، فهي كغمامة المطر ، تروي بماء حملت به ، " حينما تمطر " الأرض والزرع والإنسان ، وهي أبدا لم تكن كغمامة المشاكل الثابتة غير المتحركة تعصر النفوس 0
كانت البداية عبور الطائرات ، وعودتها من هجمتها المركزة ، والجنود يتابعون ، ويستعدون ، وقد فضت المظاريف ، بساعة الصفر من قبل ، وكانت المدافع ، تسحب من غمدها ، مبتسمة فرحة كإنسان ، وكان الجنود يناجون أسلحتهم ، مناجاة الحبيب للحبيب ، وفرحة عمت كل شئ
وكنا نحن في أعمالنا ، خلف خط الجبهة مباشرة ، فكما قلت ، كنت أعمل بدمياط نقلا من الإسكندرية ، وقبل أن يصدر البيان الأول من أجهزة الإعلام المختلفة ، ببدء القتال ، رأيت بعيني ، طائراتنا ، وهي تتنقل إلي الجبهة وهي عائدة من الجبهة جبهة القتال الممتدة بطول القناة ، جبهة القتال الهادئة ، والتي تحولت إلي نشاط مكثف ، بعد الساعة الثانية من يوم 6 أكتوبر 0
عبرت الطائرات ، وإنطلقت مدافعنا ، مزمجرة بأكثر من 2000 مدفع ، لتبدأ دكةالمدفعية الثقيلة ، في وقت واحد ، وفي إتجاه ، خط برليف المقابل لنا في الوقت ذاته ، كانت الأسلحة المختلفة ، تستعد للعبور ، فالحرب عبارة عن سيمفونية متناسقة ، ليس فيها نشاز ، كانت الأسلحة تستعد للعبور ، كيف يكون هذا ؟ وكيف تم هذا ؟ هذا الهدوء المميت وجماعات الكسل ، علي حد تعبير أحد القادة ، والعجوز الذي يحاول بصبر إصطياد السمكة ، وهي تحاوره ، وهو صابر ، والطير الذي عبر في غمامة ، فإذا هو طائراتنا ، والعدو الذي نام علي إنتصاره ، فلم يلحظ ولم يستعد ، وكأننا فاجئناه وسرواله مفككا ، وقد أصابته غشاوة كما حدث للمتربصين بالرسول عليه السلام ، وهو في طريقه إلي المدينة 0 وكيف ؟!! ألف سؤال وسؤال !!
زمجرت المدافع ، وإنطلقت تلقي بالحمم ، وأعدت معديات العبور للمشاة والمدرعات .وعمل سلاح المهندسين في سبيل نصب المعابر اللازمة ، لعبور المدرعات الكاملة 0
عبر الجنود بواسطة المعديات ، كل في اختصاصه ، تحت ساتر سلاح المدفعية وكل منهم له مهمة محدودة ، فحمل الجنود المتصدين للمدرعات حتي يتم عبور المدرعات المصرية ، حملوا بالأسلحة المضادة للدبابات ، المحمولة علي الكتف ، وكانت مهمته منع مدرعات العدو في الخلف ، عن التقدم للأمام ، وحمل جنود الصاعقة ، لاقتحام خط برليف ، مع جنود المشاة ، وأنزلت قوات خاصة في عمق العدو ، لتقطع وسائل الإمداد والتموين والذخيرة وأيضا لصد مدرعات العدو فى العمق، وإحداث الذعر في قوات العدو ، وكانت هناك قوات فتح الثغرات ، لإقامة المعابر اللازمة للمدرعات والقوات الثقيلة ، وإستخدمت خراطيم المياه ، بماكينات مص وضخ قوية لتفتيت ساتر التراب الضخم ، لقد كانت فكرة أحد المهندسين بسلاح المهندسين ، كانت الوسيلة الأكثر ملائمة ، لتفتيت هذا الساتر الترابي الضخم ، في وقت سريع وحاسم ، وحدثت تدريبات كثيرة ، وتعديلات في الماكينات اللازمة ،حتي وصلنا إلي هذا الانجاز الضخم.
*****************************
رقص الناس في الشوارع ، فرحا ، وتجمعوا حول المذياع ، وتابعوا التليفزيون ، وقرءوا الصحف فرحين مستبشرين ، بهذا الشهر العظيم ، لقد كانت أياما عظيمة فعلا ، وكان فرحنا ورقصنا، كرقص 67 ، حينما سمعنا بيانات مزيفة ، لم يكن !! كان الواقع مختلفا تماما ، كان القول بمقدار الفعل ، وجمع الناس بين العمل والفرحة ، فإنطلق كل في عملة بإخلاص ، وتحركت فرق الدفاع المدني تؤدي عملها ، وفي المستشفيات قامت الهيئات الطبية بعملها بدرجة عالية من الفن والجهد والإخلاص . كانت المستشفيات ، تستقبل الحالات المختلفة في عمل دائم طوال الليل والنهار 0 وتحركت النساء في زيارة للجرحي ، لرفع روحهم المعنوية ، وتحركت قوافل الفنانين والفنانات لنفس الغرض 0
***********************
حينما يكون الهدف عظيما ، وحينما يكون العمل عظيما تجد الناس ، وقد أعطوا كل ما لديهم بنفس العظمة ، إن الموقف ، يحدد العظمة المتبادلة ، بين من أدي ، كقائد أو جندي وبين شعب هذا القائد ، وشعب هذا الجندي ، إنها معادلة داخلية ، لا تخضع للتحليل ، أو التقييم العملي بمعناه 0 الظاهري ، وإنما هي جاذبية تلقائية ، تظهر في مثل هذه المواقف ، فالمواقف هي المحك الرئيسي للرجال ، وقس علي ذلك ، كل الأعمال الجليلة ، وقارنها بما سبق ، وضعها أمام نظرك وإجاهك وأمام شاشتك ومرآتك 0
كان الجميع يعيشون نفس المستوي ، وعلي مستوي الاسرة ، وعلي مستوي العائلة كان الجميع يعيش كل ذلك ، وتذكرت في هذه الأيام ، والدي الذي توفي مايو 1967 ، ولو عاش إلي ما بعد يونيو 1967 ، لمات مرة أخري ، لقد كان يحب هذا الوطن ، ويعمل من أجله في حدود عمله
وقريته ، وبيئته ، وتذكرت فرحة والدتي ، علي بساطتها ، التي عتبت يوما ، لأنني تبرعت بدمي ، فلما شرحت لها الموقف ، سعدت ولكنها عاطفة الأمومة ، القلقة والملتاعة ، علي إبنها وهاهى اليوم سعيدة بالانجاز العظيم0
كانت صورة أسرتى صورة كل أسرة ، نسخ متعددة من نفس الأصل ، أصل من المحبة والإخلاص والنقاء أصل من البساطة والطيبة ، لا تسميها سذاجة ، وإنما هى الحياة ، بدون روتوشها ، بدون مكياجها بدون شعر إصطناعي ، بدون إكسسوارات ، إنها حياة القرية بكل معانيها ، ومهما إختلف الزمان أو المكان ، فالجذور عميقة في طينة الأرض 0
********************
بينما كان هذا ، كان العالم كله ، يرهف أذنيه ، لهذا الحدث الكبير، وكانت ردود الأفعال مختلفة، وقطعت دول البترول العربية بترولها عن العالم تضامنا مع هذا الحدث الجليل ، وشاركت بعض الدول العربية بقوات رمزية ، ووردت الدبابات الجزائرية ، مشاركة في الحرب ، ومن يوغوسلافيا وردت المساعدات.
إنها حقائق في قصة الحرب تعطي لكل ذي حق حقه وما دمت لا تستطيع أن تكون قادرا فلن يساعدك أحدا ، عليك أن تثبت ذلك لكى يقف العالم بجانبك ، فالأيام غير الأيام والزمان غير الزمان ، فالحياة تمور اليوم بصراعات عنيفة ومصالح وعلاقات متشابكة وان لم تكن علي هذا المستوي الذي كان في رمضان ، فلن يلتفت إليك أحد ، إنها حال الحياة وما أمامنا الا أن نكون علي نفس الحدث ، وكنا كما أردنا 0
********************
كنا علي مستوي الحدث فقواتنا التي تحدثنا عنها سابقا ، قد حطمت هذا الخط المسمي ( برليف ) وصهرت طميه بخراطيم المياه ، وقفلت أنابيب ناره ، بكتل من الأسمنت ، حملها رجال شجعان تحت عنف الهجمات ، فلا نار منها أشعلت القناة وإنما كانت ساكنة مستكينة أمام رغبات الرجال !!
سقط من رجالنا ما سقط وتلونت مياه القنال بدمائهم وإمتزج الدم بالماء في عودة إلي الماء الذي منه تنبت الحياة ، حياة جديدة لنا ولأجيالنا.
لقد صعد الرجال هذا الجبل الحصين بسلالم من خشب وحبال وعزيمة لا تعرف الملل ، وصعد الرجال ليقوموا بتمشيط المنطقة ومهاجمة قوات الخط وبحق ركبوا الخط كما نركب الدابة أو الحصان ، وكان إخوان لهم في العمق يعوقون مرور الدبابات الإسرائيلية ، حتي يتم بناء الجسور ، لعبور مدرعاتنا، كان الموقف صعبا ، ولكن الرجال الذين عبروا في رمضان ، حاملين الشهادة شعارا والله أكبر نداءا فعلوا ما يعجز الوصف عنه ، ولنسمع لواحد منهم
يقول " كنا جميعا في انتظار اليوم ، يوم صدور الأوامر ، لم يكن يفت في عضدنا إلا هذا الانتظار ، إنتظار طويل ممل ، حملنا كثيرا من أزمة النفس ،
فلما كان اليوم المشهود ، صحت نفوسنا في قوة ونشاط وحيوية وعزم ، عزم الرجال وإمتطينا القنال عبورا ، والخط جسارة وقوة ، وما حديث اليوم إلا قبس من نور شامل ، عمنا جميعا ، وشدنا جميعا ، كل بطولة فرد ، هي بطولتنا ، وكل ما حققه فرد ، كان مجدا لنا ، خيوط عديدة ولكنها متشابكة كنسيج رائع الصورة في إتجاهات مختلفة ، كان الجميع يعملون ، يقاتلون ، نفس النقط الحصينة المختلفة ، علي طول القناة هاجمناها وأحطنا بها إحاطة السوار باليد ، وكان البعض منا يقوم بهجمة إنتحارية مضحيا بجسده في سبيل فتح ثغرة ، أو إسكات مدفع ، لا تسألني عن الأسماء دائما فالأسماء تختفي ويبقي الفعل ويبقي العمل 0
جاد أحد رجالنا ، رفع العلم فلما سقط رفعه آخر فلما سقط رفعه ثالث ، وعلي طول الجبهة رفرفت أعلام مصر ، كان العلم رمزا ، رمزا كبيرا للصمود ، رمزا كبيرا للانتصار 0
أعجبيني دائما أقوال شاعر تغني بذلك ، كان الشاعر يرمز للإرادة ، إرادة التحدي لدي الانسان المصري المقاتل الشجاع
بصيت فى السما عالى
لقيت الطيرده طيارى
بصيت فى الأرض من تانى
لقيت الأمر قدامى
شديت سلاحى من غمده
رقص السلاج كلمته
اليوم يومك يابو الليالى نايم
رد السلاح صاحى وحامى
ورجلين كتيرة كما الرمال بتعدى
والموجة شايلة البشر وبتهدى
لجل مانوصل للشط الأصفر
****************************
وهناك علي الشط الأصفر
جيش رديف دوسناه
ورمل سينا بوسناه
وعلم مصر رفعناه
****************************
وهناك علي الشط الأصفر
زرع شهيدنا الشجر
طلع الشجر عالي
رفرف عليه الطير 00 فناداه
قولوا لجيل ورا جيل
هنا 00 ابن نيل
جدع أسمر 00 ومناه
يزرع شجر يوم ماعبر
" ومن دمه ............................. رواه "
كان الشاعر بروي كيف عبر الرجل وكيف قاتل وكيف زرع العلم وكيف زرع الشجر وكيف رواه من دمه وتركه للأجيال شاهدا ومعبرا ورمزا وكيف أشهد الطير علي ذلك ، ليكون نبراسا
عبر الأيام.
أعجبتني دائما أقوال الشاعر ، وقبلها وبعدها ، كلمات الرجال المحفورة من دماء نقية زكية إسألوا سيناء اسألوا شواطئها ورمالها وجبالها وبدوها وحضرها وعدوها وصديقها ، ستجيبكم ستجيبكم من كل حبة رمل فيها من كل زرع نبت فيها ، من كل بناء فيها ، من كل النواحي ومن كافة البقاع ستقول لكم 0 هنا جاء الرجال عبروا وسجلوا ، وبينما جنود في المقدمة يغزون خلفية العدو ، ويقطعون أوصالها كان جنود ينصبون الجسور ، ومع الليل إكتمل أول جسر وفي اليوم التالي إكتمل الجسر الثاني وتوالت الجسور رغم ضربات الطيران المتعددة لمنع إقامة الجسور ولكنها باءت جميعا بالفشل ، وسقط لنا شهداء منهم الشهيد " حمدي " من سلاح المهندسين وغيرهم من الشهداء ، قلت لك لا تسألني عن الاسماء فكلها فصوص من اللؤلؤ أو الزمرد أو الماس ، نقي ما شئت من الجواهر ، أرفعها وأرقاها ، هي عقد كللت به عنق مصر.
*************
في عمق أحشائي ، جاء الرجال وإنتشروا في مكامن تنتظر مدرعات العدو وسلاح بسيط يحمل علي الكتف وبضغطة يد بسيطة تنفجر الدبابات ويتوقف تقدمها 0
وعلي الجسور عبرت مدرعاتنا ، وإنتشرت في أنحاء المواجهة وتقدمت إلي العمق، لقد كان تقدم الرجال لصد مدرعات العدو ناجحا ، حتي عبرت مدرعاتنا وسيطرت علي المنطقة بأسرها وتقدم العدو بدفعات اخري من الدبابات كان يريد أن يوقف تقدمنا وباله مشغول في جبهتين ، ولكن كل جهوده باءت بالفشل ، وأراد جنودنا أن يخففوا الضغط علي الجبهة الشمالية في الجولان فتقدمت إلي الأمام في معركة رهيبة سميت " بمعركة الدبابات الكبري " منذ الحرب العالمية 0
كان العدو يريد بطريقته المعروفة الاختراق برأس كوبري داخل الجيش ثم القيام بحركة إلتفاف ، عرفنا ذلك من بعض أفراد الاستطلاع الذين أسروا بعض من جنود العدو ، وعرفت الخطة وترك له تنفيذ خطته ليفاجأ بأنه قد وقع أسير خطته ليتم تدميره من الجانبين، لواء كامل من المدرعات تم تدميره وأسر قائده " عساف ياجوري " الذي هرب من عربة قيادته بعد أن فشل في القيام بحرب نفسية بأنه المنتصر ولكنه فشل أمام نوعية جديدة من القيادة لا تلتفت أمام مثل هذه الترهات 0
**************
قال الجندي تتحدث سيناء وتشهد علي ما فعلنا تتحدث حديث المشاهد ، حديث شاهد العيان تتحدث عن إستخدام وسيلة الدفاع الجوي كغطاء لجنودنا وكسلاح هجومي إذا ماتم تحريكها لتغطية مناطق جديدة.
إستمرت المعارك علي أشهد منظر وأعظم صورة حيه مجسمة مملؤة بكل المشاعر وتدخلت الدول الكبرى ، وإلتقطت أقمار التجسس ألامريكية ، وجود فراغ طبيعي بين القوات وأحدثت ثغرة بمجموعة من الدبابات الإسرائيلية المموهة في محاولة لاختراق الجبهة المصرية ، ونجحت هذه المجموعة وتمركزت في البحيرات المرة والدفرسوار ، وأقامت جسرا من الصخور ، وحاولت التقدم .خلف الخطوط علي محاور الإسماعيلية – السويس – لم يكن ليتم هذا ، لولا خوف الولايات المتحدة علي إسرائيل لقد أرادت أن تقلل من حجم الانتصار المصري بمثل هذه الثغرة ، فهي لم تكتف بذلك بل أقامت من مطار العريش مستقبلا لجسر جوي لإنقاذ إسرائيل ، ولم يفت في عضدنا كل هذا كانت قواتنا علي أهبه الاستعداد لاحتواء تلك الثغرة ، لقد خنقت قواتها بأياديها ، دون أن تدري فقد دخلت المجموعة التي تم تدعيمها في كثافة بشرية وعسكرية مصرية ، ولا تستطيع الافلات منها 0
***************
عندما رأينا ما رأينا وعرفنا ما عرفنا " قال أحد المؤرخين العسكريين وهو الجنرال بوفر الفرنسي الجنسية ، أن الثغرة حركة تليفزيونية ، لتغطية نجاح مصر في حرب أكتوبر " ولم تكن هي أكثر من ذلك إلا أن العدو إستغل وقف إطلاق النار ، كعادته في محاولة إكتساب أرض جديدة في إتجاه الإسماعيلية وفي إتجاه السويس ، ولكن هل حقا نجح في ذلك ، لنترك سيناء ، ونعود إلي جندي أخرمن جنودنا ، ليروي لنا ، ما حدث وماتم ، ولنري صلابة المقاتل عامة ورجال القوات الخاصة وغيرهم 0 بل وحتى المدنيين من الجيش الشعبى وقوات المقاومة الشعبية بمنطقة القناة .
" تم حصر القوات المعتدية ، حصر شاملا ، وتم رصدها من كافة الجوانب وحوصرت بكافة الأسلحة ولكن العدو إنتهز فرصة وقف إطلاق النار ، وحاول التقدم علي المحاور طريق الإسماعيلية وطريق السويس وتقدم زكي شتا أحد مقاتلينا ، كان يلف حول جسمه حزام من الديناميت وتقدم نحو مجموعة من الدبابات ، وقذف بنفسه تحت عجلاتها وأوقف تقدمها 0
*******************
زكي إذن هنا هو ما حدثتكم عنه من قبل ، أحد أفراد قريتنا ، ها هو الآن يترك كل شئ ويقذف بنفسه مرة أخري ، كطوربيد بشري ، ليوقف تقدم العدو ، كم قذف بنفسه من قبل يمينا وشمالا وأعلا وأسفل ، ليحمي مرماه ، كحارس لكرة القدم بفريق بلدتنا وها هو اليوم ، يقذف بنفسه ، ليزود عن مرمي مصر 0
لم يكن زكي شتا هو المدافع فقط والمضحي فقط وإنما كثيرون ، ذهبوا في الليل وإقتحموا المجموعة المحاصرة ، وأسروا منها ما أسروا وأصابوا ما أصابوا وأصيبوا ما شاء لهم أن يصابوا 0
لكن العدو لا يحلو له إلا أن يتقدم في محاولة لاحتلال إحدي المدن الهامة ، والتي يكون لها رد فعل عالمي ، ينقص من دوي الانتصار المصري ، كانت المدينة ، السويس ، جنوب القناة ، ورأس عنق البحر الأحمر ، وذات السمعة العالمية ، منذ تاريخ قديم ، كانت الخطة
هي حصار المدينة وإسقاطها والانقضاض علي خلفية الجيش الثالث وعزله ذاته في الضفة الشرقية المواجهة للسويس ، ولكن السويس المحاصرة والجيش الثالث المحاصر ، والشعب البطل وكل فئات الأمة ورجالاتها ، كانوا علي مستوي الحدث ، فقاموا ما آن لهم ان يقاوموا ، وبحثوا عن المياه ، حينما قطعت المياه ، وتفجرت المياه من الأرض في كل من الشرق والغرب ، فروت وأشبعت ، وبحثوا عن الوقود ، وإكتشفوا خزانات هائلة ، في الجانب الشرقي للقناة ، ودافعوا ونسقوا في الدفاع ، وخططوا ونفذوا ، ونجحوا ، ووقفت المقاومة الشعبية ، يتزعمها الشيخ حافظ سلامة ، يشد أزرها ويقوي أواصرها ، ويزكي روح الوطنية ، وقامت الشرطة وقوات الدفاع المدني والمستشفيات ، بعملها بأمانة وبشجاعة وبصبر ، مما أجبرت العالم أجمع على تقديرها والاعتراف بها
0 كانت كل الأجهزة تعمل من حكومة ومواطنين وأمن وجيش ، كلهم بوتقة واحدة وتفرقت علي مداخل البلدة قوات المقاومة الشعبية وقوات الجيش الثالث مسلحة (بالأربجي ) ، لتحطم الدبابات المتقدمة ويتراجع العدو تاركا قتلاه وأسلحته 0
فك الحصار ، وإنتهت الحرب أخيرا ، وإنسحبت إسرائيل ، وتوج الانتصار ، بالانسحاب الشامل في إبريل 1982 ، وتحررت سيناء ...........ولو سألنا سينا أى سلاح ساعدك فى التحرير لقالت كلهم أولادى أدوا المهمة بإقندار وولو سألنا مصر أى سلاح ساعد فى إسترداد أرضك ورفع كرامتك لقالت كلهم أولادى الجندى والمدنى فنعم الام ونعم الأبناء .
***************
عادت حركة العمران إلي مدن القنال ، وعاد المهاجرون إلي أرضهم ، وعدنا إلي سيناء وحولناها إلي ورشة عمل وبناء ، وفي الداخل عاد الجميع إلي أعمالهم ، يبنون ويعمرون ويقفون في معركة جديدة معركة الإنتاج والتصنيع وبناء البلد ، وبناء الانسان ، وعالميا صارت لمصر سمعتها القوية الناصعة البيضاء 0
وعاد إخوان لنا في الحرب إلي مواقعهم المدنية ، يشاركون مرة أخري في البناء وعاد أصحاب الأوسمة ، ممن فقدوا ، ساقا ، أويدا ، ، أو جزءا من جسده ليشارك بدوره في كافة المجالات الفنية والإدارية والرياضية وكافة نواحى الحياة ، لم يوقفهم عائق ، بل تخطوه ليثبتوا أن الانسان المصري في كافة الاتجاهات وفي كافة الظروف وفي كافة العوامل ، صلب قوي ، معجون من طين هذا النيل ، وأي طمي هذا ، خصب رائع ، ملئ بكل النواحي الإنسانية وفي كافة مجالاتها 0
وخرج الناس ، لمجالات الحياة المختلفة ، في الداخل والخارج ، وخرجت وعدت 0
خرجت وعدت ، إلي قريتي والى ملعبي وإلي أحبابي ، وإلي زملائي في العمل وفي الملعب مع أجيال جديدة ، إلتقاء وتواصل ، نمد يدا إلي العمل بإخلاص وبإتقان في كل مكان وفي كل زمان ، ونمد يدا إلي الملعب مع شباب جديد ، قد يظهر منهم مثل شهدائنا ، قد يخرج منهم ، زكي أو المليجي ، أو محمد أو جاد أو عبده أو عربانو أو غيرهم قد تظهر براعم ، تحمل الرايه ، وتنير الطريق ، لنا ولبلدنا ، ولتعطي من أجل مصر جديدا . عندما تنادينا فى الملمات وفى الذود عنها.. وعندما تنادينا للبناء ورفع الهمة... فهي مصر ، عقدة الحياة ، ولحنها ، ومفتاح العالم ، وذهب كل شئ ، وبقيت هي ، وسنذهب جميعا وتبقي هي هامتها مرفوعة فى السماء، ونظل نحن مادمنا نعيش ، نجتر الذكري ، ذكري كل شئ ، ذكريات الأرض والحرب والحب ، تحت أشجار خضراء ، ممتده ، وفي ليالي قمرية ، وفي ليالي غير قمرية ، فالذكريات لاتحتاج ، إلي وقت ولا إلي مكان ، إنها تأتي تلقائية عفوية ، كبحر من الحنان كبحر من الحياة ، ومن الذكريات تعود الحياة ، تعود فتنفخ في أرواحنا ، أجساد تتحرك ، ورجال كانوا لنا إخوة ، وكانوا لنا فداء وكانوا لمصر معني ورمز ، رمز البطولة .
إنتهت كتابتها فى1983